سورة البقرة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


قلت: {استوقد} يحتمل أن تكون للطلب، أو زائدة بمعنى أوقد، و{لما} شرطية، و{ذهب} جواب، وإذا كان لفظ الموصول مفرداً واقعاً على جماعة، يصح في الضمير مراعاة لفظه فيفرد، ومعناه فيجمع، فأفرد في الآية أولاً، وجمع ثانياً، ويقال: أضاء يضيء إضاءة، وضَاء يضُوء ضَوْءاً.
يقول الحقّ جلّ جلاله: مثل هؤلاء المنافقين من اليهود {كَمَثَلِ} رجل في ظلمة، تائه في الطريق، فاستوقد ناراً ليبصر طريق، فاستوقد ناراً ليبصر طريق القصد {فَلَمَّا} اشتغلت و{أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} فأبصر الطريق، وظهرت له معالم التحقيق، أطفأ الله تلك النار وأذهب نورها، ولم يبق إلا جمرها وحرّها. كذلك اليهود كانوا في ظلمة الكفر والمعاصي ينتظرون ظهور نور النبيّ صلى الله عليه وسلم ويطلبونه، فلما قدم عليهم، وأشرقت أنواره بين أيديهم كفروا به، فأذهب الله عنهم نوره، {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} الكفر والشك والنفاق، {لاَّ يُبْصِرُونَ} ولا يهتدون، {صُمٌّ} عن سماع الحق، {بُكْمٌ} عن النطق به {عُمْي} عن رؤية نوره، {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} عن غيّهم، ولا يقصرون عن ضلالتهم.
الإشارة: مَثَلُ مَنْ كان في ظلمات الحجاب قد أحاطت به الشكوك والارتياب، وهو يطلب من يأخذ بيده ويهديه إلى طريق رشده، فلما ظهرت أنوار العارفين، وأحدقت به أسرار المقربين، حتى أشرقت من نورهم أقطارُ البلاد، وحَيِيَ بهم جلّ العباد، أنكرهم وبعد منهم، فتصامم عن سماع وعظهم، وتباكَمَ عن تصديقهم، وعَمِيَ عن شهود خصوصيتهم، فلا رجوع له عن حظوظه وهواه، ولا انزجار له عن العكوف على متابعة دنياه، مثله كمن كان في ظلمات الليل ضالاً عن الطريق، فاستوقد ناراً لتظهر له الطريق، فلما اشتعلت وأضاءت ما حوله أذهب الله نورها، وبقي جمرها وحرّها، وهذه سنة ماضية: لا ينتفع بالولي إلا مَن كان بعيداً منه. وفي الحديث: «أزْهَدُ النَّاسِ في العَالِم جيرانُه»، وقد مَثَّلُوا الولي بالنهر الجاري كلما بَعُدَ جَرْيُه عَمَّ الانتفاعُ به، ومثَّلوه أيضاً بالنخلة لا تُظِلُّ إلا عن بُعْد. والله تعالى أعلم.


قلت: {أو} للتنويع، أو بمعنى الواو، و{الصيب}: المطر، فَيْعِلٌ، من صاب المطر إذا نزل، وهو على حذف مضاف، أي: أو كذي صيب، وأصله: صيوب، كسيد، قلبت الواو ياء وأدغمت، ولا يوجد هذا إلا في المعتل كميت وهين وضيق وطيب.
و{الرعد}: الصوت الذي يخرج من السحاب، و{البرق}: النور الذي يخرج منه. قال ابن عزيز: رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ ينشىءُ السَّحَابَ فَتنطِقُ أحْسَنَ النطْق، وتَضْحَكُ أحسَنُ الضحك، فنطقها الرعدُ، وضَحِكُها البَرْقُ» وقال ابن عباس: الرعدُ مَلَكٌ يسوقُ السَّحابَ، والبرقُ سَوْطٌ مِنْ نُورٍ يَزْجُرُ بهِ السَّحَاب. اهـ.
والصواعق: قطعة من نار تسقط من المخراق الذي بيد سائق السحاب، وقيل: تسقط من نار بين السماء والأرض، والله تعالى أعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: ومثل المنافقين أيضاً كأصحاب مطر غزير {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ} وهدير أصابهم في ليلة مظلمة وقفراء مُدْلهمة. فيه {بَرْقٌ} يلمع، وصاعقة تقمع، إذا ضرب الرعد وعظم صوته جعلوا {أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم} من الهول والخوف حذراً من موت أنفسهم، وقد ماتت أرواحهم وقلوبهم، وإذا ضرب البرق كاد {أن يخطف أبصارهم}، فإذا لمع أبصروا الطريق، و{مشوا فيه وإذا أظلم عيهم قاموا} متحيرين حائدين عن عين التحقيق، {وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطُ} [البُرُوج: 20]. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} بصوت ذلك الرعد، {وَأَبْصَارِهِمْ} بلمعان ذلك البرق، {إن الله على كل شيء قدير} لا يعجزه شيء.
هذا مثلهم في تحيّرهم واضطرابهم، فيحتمل أن يكون من التشبيه المركب، وهو تشبيه الجملة بالجملة، أو من المفَصَّل، فيكون المطر مثالاً للقرآن، وفيه ذكر الكفر والنفاق المُشَبَّهَيْن بالظلمات، والوعد عليه والزجر المشبّه بالرعد، والحُجج الباهرة التي تكاد أحياناً تبهرهم المشبهة بالبرق، وتخوفهم وروعُهم هو جَعْل أصابعهم في آذانهم، لئلا يسمعون فيميلوا إلى الإيمان، وفَضْحُ نفاقهم وتكاليفُ الشرع التي يكرهونها هي الصواعق. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أهل الخصوصية إذا ظهروا بين العموم بأحوال غريبة وعلوم وَهْبية، وأسرار ربانية وأذكار نورانية، دهشوا منهم وتحيّروا في أمرهم، وخافوا على أنفسهم، فإذا سمعوا منهم علوماً لدنية وأسراراً ربانية فرّوا منها، وجعلوا أصابعهم في آذانهم، خوفاً على نفسهم أن تفارق عوائدها وهواها، وإذا خاصمهم أحد من العموم ألجموه بالحجة، فتكاد تلك الحجة تخطفه إلى الحضرة، كلما لمع له شيء من الحق مشى إلى حضرته، وإذا كرّت عليه الخصوم والخواطر، وأظلم عليه الحال، وقف في الباب حيران، ولو شاء الله لذهب بعقله وسمعه وبصره، فيبصر به إلى حضرته. من استغرب أن ينقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِراً} [الكهف: 45].
فالصِّيَّب الذي نزل من السماء كِنَايةٌ عن الواردات والأحوال التي ترد على قلوب العارفين، ويظهر أثرها على جوارحهم، والظلمات التي فيها كناية عن اختفاء بعضها عن أهل الشريعة فينكرونها، والرعد كناية عن اللهج بذكر الله جهراً في المحافل والحلق، والبرق كناية عن العلوم الغريبة التي ينطقون بها والحجج التي يحتجون بها على الخصوم، فإذا سمعها العوام اشمأزت قلوبهم عن قبولها، فإذا وقع منهم إنصاف تحققوا صحتها فمالوا إلى جهتها، ومَشَوْا إلى ناحيتها، فإذا كَرَّت عليهم الخصوم قاموا منكرين، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هُود: 118].
ولما ذكر الحق من تخلق بالإيمان ظاهراً وباطناً، ومن تحلّى به كذلك، ومن أخفى الكفر وأظهر الإيمان، دعا الكل إلى توحيده وعبادته.


قلت: جملة الترجي حال من الواو في {اعْبُدُوا}، أي: اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدي والفلاح، المستوجبين جوار الله تعالى، نبّه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين؛ وهو التبري من كل شيء سوى الله تعالى- إلى الله تعالى.
و{الَّذي جَعَلَ} صفة للرب، و{فَلا تَجْعَلُوا} معطوف على {اعْبُدُوا} على أنه نهي، أو منصوب بأن، جواب له، و (الأنداد) جمع نِدِّ، بكسر النون. وهو الشبه والمثل، و{أَنتُمْ تَعْلَمُونَ} حال من ضمير {فَلاَ تَجْعَلُوا} أي: فلا تجعلوا لله أنداداً والحال أنكم من أهل العلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: يا عبادي اعبدوني بقلوبكم بالتوحيد والإيمان، وبجوارحكم بالطاعة والإذعان، وبأرواحكم بالشهود والعيان، فأنا الذي أظهرتكم من العدم- أنتم ومَن كان قبلكم- وأسبلت عليهم سوابغ النعم، الأرض تقلكم والسماء تظلكم، والجهات تكتنفكم، وأنزلت من السماء ماء فأخرجت به أصنافاً {من الثمرات رزقاً لكم}، فأنتم جوهرة الصدق، تنطوي عليكم أصداف مكنوناتي، وأنتم الذين أطلعتكم على أسرار مكنوناتي، فكيف يمكنكم أن تتوجهوا إلى غيري؟ وقد أغنيتكم بلطائف إحساني وبري، أنعمت عليكم أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الإمداد، خصصتكم بنور العقل والفهم، وأشرقت عليكم نبذة من أنوار القِدم، فبي عرفتموني، وبقدرتي عبدتموني، فلا شريك معي ولا ظهير، ولا احتياج إلى معين ولا وزير.
الإشارة: توجه الخطاب إلى العارفين الكاملين في الإنسانية الذي يعبدون الله تعظيماً لحق الربوبية، وقياماً بوظائف العبودية، وفيهم قال صاحب العينية:
هُم الناسُ فالزمْ إنْ عَرفْتَ جَنَابَهُمْ *** فَفِيهِم لِضُرِّ العالمين مَنَافعُ
وقال قبل ذلك:
همُ الْقَصْدُ للملهوفِ والكنزُ والرجَا *** ومنهم يَنَالُ الصَّبُّ ما هُوَ طامعُ
بهِم يَهْتَدي للعينِ مَن ضَلَّ في العَمَى *** بهِم يُجذَبُ العُشَّاقُ والرَّبْعُ شاسعُ
هم القَصْدُ والمطلوبُ والسؤلُ والمنَى *** واسْمُهُم لِلصَّبِّ في الحبِّ شَافعُ
فعبادة العارفين: بالله ومن الله وإلى الله، وعبادة الجاهلين: بأنفسهم ومن أنفسهم ولأنفسهم، عبادة العارفين حمد وشكر، وعبادة الغافلين اقتضاء حظ وأجر، عبادة العارفين قلبية باطنية، وعبادة الغافلين حسية ظاهرية، يا أيها الناس المخصوصون بالأنس والقرب دوموا على عبادة القريب، ومشاهدة الحبيب، فقد رَفَعْتُ بيني وبينكم الحجب والأستار، وأشهدتكم عجائب الألطاف والأسرار، أبرزتكم إلى الوجود، وأدخلتكم من باب الكرم والجود، ومنحتكم بفضلي غاية الشهود، لعلكم تتقون الإنكار والجحود، وتعرفونني في كل شاهد ومشهود.
فقد جعلت أرض نفوسكم مهاداً لعلوم الشرعية، وسماء قلوبكم سقفاً لأسرار الحقيقة، وأنزلت من سماء الملوكت ماء غيبياً تحيا به أرض النفوس، وتهتز بواردات حضرة القدوس، فتخرج من ثمرات العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، والأحوال المرضية، ما تتقوت به عائلة المستمعين، وتنتعش به أسرار السائرين، فلا تشهدوا معي غيري، ولا تميلوا لغير إحساني وبري، فقد علمتم أني منفرد بالوجود، ومختص بالكرم والجود، فكيف يرجى غيري وأنا ما قطعت الإحسان؟! وكيف يلتفت إلى ما سواي وأنا بذلت عادة الأمتنان؟! مني كان الإيجاد، وعليَّ دوام الإمداد، فثقوا بي كفيلاً، واتخذوني وكيلاً، أعطكم عطاء جزيلاً، وأمنحكم فخراً جليلاً.
ولما أمر عباده بعبادته وتوحيده، أمرهم بتصديق كلامه والإيمان برسوله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8